المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : هدي التمتع والقران هيئة كبار العلماء



Don't play with me
03-11-2011, 07:21 AM
هدي التمتع والقران
هيئة كبار العلماء

الحمد لله وحده، وبعد:
فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الثامنة المنعقدة في مدينة الرياض في النصف الأول من شهر ربيع الثاني عام 1396 هـ موضوع هدي التمتع والقران ووقت الذبح ومكانه، وحكم الاستعاضة عن الهدي بالتصدق بقيمته وعلاج مشكلة اللحوم مشفوعاً بالبحث المعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ورغبة في إطلاع قراء (مجلة البحوث الإسلامية) على هذا البحث القيم ننشره بنصه:
هدي التمتع والقران
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
فبناء على ما تقرر في الدورة السابعة لهيئة كبار العلماء المنعقدة في الطائف في شعبان عام 1395هـ من الموافقة على إعداد بحث هدي التمتع والقران فقد أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثاً في ذلك مشتملا على الأمور الآتية:
أولاً: ابتداء وقت ذبح الهدي مع الأدلة والمناقشة.
ثانياً: نهاية وقت ذبح الهدي مع الأدلة والمناقشة.
ثالثاً: الذبح ليلا مع الأدلة والمناقشة.
رابعاً: مكان الذبح مع الأدلة والمناقشة.
خامساً: حكم الاستعاضة عن ذبح الهدي بالتصدق بقيمته مع الأدلة
سادساً: علاج مشكلة اللحوم في منى.
وبالله التوفيق، صلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
أولا: ابتداء وقت الذبح
اختلف أهل العلم في تحديد ابتداء وقت ذبح هدي التمتع والقران، هل يجوز ذبحه قبل يوم النحر أو أنه لا يجوز إلا ابتداء من يوم النحر؟
القول الأول:
يبتدئ وقت ذبحه يوم النحر بعد طلوع الشمس وصلاة العيد أو مضي قدرها عند الحنابلة، وبعد رمي جمرة العقبة عند مالك، ويوم النحر عند الحنفية قال النسفي والزيلعي: وخص ذبح هدي المتعة والقران بيوم النحر فقط وفي بداية المبتدي " ولا يجوز ذبح هدي المتعة والقران إلا في يوم النحر " وجاء معنى ذلك في كثير من كتب الحنفية تركنا ذكرها اختصاراً.
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيط- يرحمه الله -: أما مذهب مالك فالتحقيق فيه أن هدي التمتع والقران لا يجب وجوباً تاماً إلا يوم النحر بعد رمي جمرة العقبة، وقال ابن العربي: ولو ذبحه قبل يوم النحر لم يجزه، وقال الباجي: ولا يجوز أن ينحره قبل يوم النحر، وقال المزني: فإن كان معتمراً نحر بعد ما يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة قبل أن يحلق عند المروة وحيث نحر من فجاج مكة أجزأه وإن كان حاجا نحره بعد ما يرمي جمرة العقبة قبل أن يحلق انتهى المقصود.
وقال الرملي: " ووقته أي وقت ذبح الهدي - كوقت ذبح الأضحية على الصحيح وصححه أيضا النووي والرافعي، وقال الفتوحي: ووقت ذبح أضحية وهدي نذر وتطوع ومتعة وقران من بعد أسبق صلاة العيد بالبلد أو قدرها لمن لم يصل انتهى كلامه.
ونقل ابن قدامة عن أبي الخطاب: أنه يجب إذا طلع الفجر يوم النحر؛ لأنه وقت إخراجه فكان وقت وجوبه. واستدل للقول بأنه لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر بالكتاب والسنة والإجماع والأثر والمعنى: أما الكتاب فمنه دليلان:
الأول: قوله تعالى: (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) [سورة البقرة الآية 196]، وجه الدلالة ما ذكره الباجي - رحمه الله - بقوله: لو جاز قبل يوم النحر لجاز الحلق قبل يوم النحر ولا سيما على القول بدليل الخطاب ولا خلاف بينهم في القول به إذا علق بالغاية وهو قول القاضي أبي بكر وأكثر شيوخنا. ومما يدل على هذا حديث حفصة، وهو قولها يا رسول الله ما بال الناس حلوا من عمرتهم ولم تحل أنت من عمرتك فقال: ((إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر))[1].
وهذا يفيد أنه تعذر النحر عليه فوجب لامتناعه من الحلاقة، ولو كان النحر مباحاً لعلل امتناع الإحلال بغير تأخير النحر ولما صح اعتلاله به.
ويمكن أن يناقش الاستدلال بالآية بأنها في الإحصار فإن قبلها قوله تعالى: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) [سورة البقرة الآية 196]، والكلام في هدي التمتع والقران لا الإحصار.
الثاني: قوله تعالى: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) [سورة البقرة الآية 196]، وجه الدلالة أن الآية مطلقة من جهة تحديد وقت ذبح الهدي وقد جاء ما يدل على تحديده وهو قوله تعالى: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) [سورة الحج الآية 29]، ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ. ووجه الدلالة ما ذكره الجصاص وغيره من أن قضاء التفث وطواف الزيارة لا يكون قبل يوم النحر ولما رتب هذه الأفعال على ذبح هدي البدن دل على أنها بدن القران والتمتع لأن جميع الهدايا لا يترتب عليها هذه الأفعال، وأن له أن ينحرها متى شاء فثبت بذلك أن هدي المتعة غير مجز قبل يوم النحر.
وقد نوقش هذا الاستدلال بقول الجصاص- رحمه الله - " إذا كان الصيام بدلا من الهدي والهدي لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر فكيف جاز الصوم؟ وأجاب عن ذلك بقوله: " لا خلاف في جواز الصيام قبل يوم النحر وقد ثبت بالسنة امتناع ذبح الهدي قبل يوم النحر وأحدها ثابت بالاتفاق وبدليل قوله تعالى: (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) [سورة البقرة الآية 196]، والآخر ثابت بالسنة فالاعتراض عليهما بالنظر ساقط.
وأيضا فإن الصوم مراعى ومنتظر به شيئان، أحدهما إتمام العمرة والحج في أشهر الحج والثاني ألا يجد حتى يحل فإذا وجد المعنيان صح الصوم عن المتعة وإذا عدم أحدهما بطل أن يكون الصوم متعة وصار تطوعا، وأما الهدي فقد رتب عليه أفعال أخر من حلق وقضاء التفث وطواف الزيارة فلذلك اختص بيوم النحر.
واعترض على ذلك بما قاله الجصاص من أن الله - تعالى -قال: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) [سورة البقرة الآية 196].
فلا يجوز تقديمه على الحج وأجاب عن ذلك بقوله: لا يخلو قوله تعالى: (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) [سورة البقرة الآية 196]، من أحد معان إما أن يريد به في الأفعال التي هي عمدة الحج وسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - حجا وهو الوقوف بعرفة؛ لأنه قال: ((الحج عرفة))[2] في أول أشهر الحج لأن الله قال: سورة البقرة الآية 197 الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ، وغير جائز أن يكون المراد فعل الحج الذي لا يصح إلا به، لأن ذلك إنما هو يوم عرفة بعد الزوال ويستحيل صوم الثلاثة الأيام منه، ومع ذلك فلا خلاف في جوازه قبل يوم عرفة فبطل هذا الوجه، وبقي من وجوه الاحتمال في إحرام الحج أو في أشهر الحج وظاهره يقتضي جواز فعله بوجود أيهما كان لمطابقته اللفظ في الآية وأيضا قوله تعالى: (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) [سورة البقرة الآية 196]، معلوم أن جوازه معلق بوجود سببه لا بوجوبه فإذا كان هذا المعنى موجودا عند إحرامه للعمرة وجب أن يجزئ ولا يكون ذلك خلاف الآية، كما أن قوله تعالى: (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) [سورة النساء الآية 92]، دال على جواز تقديمها على القتل لوجود الجراحة وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول))[3] لم يمنع جواز تعجيلها؛ لوجود سببها وهو النصاب فكذلك قوله تعالى: (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) [سورة البقرة الآية 196]، غير مانع جواز تعجيله لأجل وجود سببه الذي جاز فعله في الحج.
ثم نقده - رحمه الله - بقوله لم نجد بدلاً يجوز تقديمه على وقت المبدل عنه، ولما كان الصوم بدلاً عن الهدي لم يجز تقديمه عليه.
وأجاب عن ذلك بقوله: هذا اعتراض على الآية؛ لأن نص التنزيل قد أجاز ذلك في الحج قبل يوم النحر. وأيضا فإننا لم نجد ذلك فيما تقدم البدل كله على وقت المبدل منه، وهاهنا إنما جاز تقديم بعض الصيام على وقت الهدي وهو صوم الثلاثة الأيام والسبعة التي معها غير جائز تقديمها عليها؛ لأنه - تعالى -قال: (وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) [سورة البقرة الآية 196]، فإنما أجيز له من ذلك مقدار ما يحل به يوم النحر فإذا لم يجد الهدي وهدي العمرة يصح إيجابه بعد العمرة ويتعلق به حكم التمتع في باب المنع من الإحلال إلى أن يذبحه انتهى كلامه.
ونوقش الاستدلال بالآية على أن ثم للتراخي، فربما يكون الذبح قبل يوم النحر وقضاء التفث فيه. وأجيب عنه بأن موجب ثم بالتراخي يتحقق بالتأخير ساعة، فلو جاز الذبح قبل النحر جاز قضاء التفث بعده بساعة كذلك.
وأما الأدلة من السنة فكثيرة نكتفي منها بما يأتي:
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: ((تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة وبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج وتمتع الناس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعمرة إلى الحج فكان من الناس من أهدى فساق الهدي ومنهم من لم يهد فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة قال للناس: " من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحل ثم ليهل بالحج وليهد فمن لم يجد هديا فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله))[4] الحديث.
ولهما عن جابر - رضي الله عنه - قال: ((أهللنا بالحج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما قدمنا مكة أمرنا أن نحل ونجعلها عمرة فكبر ذلك علينا وضاقت به صدورنا: فقال يا أيها الناس أحلوا فلولا الهدي معي فعلت كما فعلتم " قال: فأحللنا حتى وطئنا النساء وفعلنا كما يفعل الحلال حتى إذا كان يوم التروية وجعلنا مكة بظهر أهللنا بالحج))[5].
ولهما عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: ((قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو منيخ بالبطحاء فقال: بما أهللت؟ قال: قلت: أهللت بإهلال كإهلال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: سقت من هدي؟ قلت: لا، قال: فطف بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حل فطفت بالبيت وبالصفا والمروة، ثم أتيت امرأة من قومي فمشطتني وغسلت رأسي))[6].
روى البخاري عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - أنه سئل عن متعة الحج فقال: ((أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع وأهللنا فلما قدمنا مكة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي " فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وآتينا النساء ولبسنا الثياب وقال: من قلد الهدي فإنه لا يحل له حتى يبلغ الهدي محله، ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج وإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة فقد تم حجنا وعمرتنا وعلينا الهدي كما قال تعالى: (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) [سورة البقرة الآية 196])).
وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: ((خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نصرخ بالحج صراخاً فلما قدمنا مكة أمرنا أن نجعلها عمرة إلا من ساق الهدي فلما كان يوم التروية ورحنا إلى منى أهللنا بالحج))[7].
وروى البزار في مسنده عن أنس- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم - أهل هو وأصحابه بالحج والعمرة فلما قدموا مكة طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة وأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحلوا فهابوا ذلك فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أحلوا فلولا أن معي الهدي لأحللت فحلوا حتى خلوا إلى النساء))[8].
وروى أبو داود عن أنس قال: بات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني بذي الحليفة حتى أصبح، ثم ركب حتى استوت به راحلته على البيداء فحمد الله وسبح وكبر، ثم أهل بحج وعمرة وأهل الناس بهما فلما قدم أمر الناس فحلوا حتى إذا كان يوم التروية أهلوا بالحج فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحج نحر سبع بدنات بيده قياما))[9].
وروى أحمد وأبو داود والنسائي عن عبد الله بن قرط أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن أعظم الأيام عند الله - عز وجل - يوم النحر ثم يوم القر))[10]، قال ثور: وهو اليوم الثاني، قال: وقرب رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بدنات (خمس أو ست) فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ قال: فلما وجبت جنوبها قال: فتكلم بكلمة خفية لم أسمعها فقلت ما قال؟ قال من شاء اقتطع.
وروى مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحر عن نسائه في حجه بقرة))[11].
وفي رواية قال: ((نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عائشة بقرة يوم النحر))[12].
وروى البخاري ومسلم عن عمرة بنت عبد الرحمن قالت: سمعت عائشة - رضي الله عنها - تقول خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخمس بقين من ذي القعدة لا نرى إلا الحج فلما دنونا من مكة أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لم يكن معه هدي إذا طاف وسعى بين الصفا والمروة أن يحل، قالت: فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر فقلت ما هذا؟ قال: نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أزواجه))[13] قال يحيى: فذكرته للقاسم فقال: أتتك بالحديث على وجهه ولهما عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: فلما دخلنا مكة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من شاء أن يجعلها عمرة إلا من كان معه الهدي " قالت: وذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه البقر يوم النحر))[14].
وروى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: ((وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه فجاء رجل فقال: يا رسول الله لم أشعر فحلقت قبل أن أنحر فقال: اذبح ولا حرج ثم جاء رجل آخر فقال: يا رسول الله لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي فقال: ارم ولا حرج فما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج))[15].
وروى مسلم في صحيحه عن جابر- رضي الله عنه - قال: أمرنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم – ((إذا أحللنا أن نهدي ويجتمع النفر منا في الهدية وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجتهم))[16].
وروى مسلم عن عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما- قال: ((أهل النبي- صلى الله عليه وسلم - بعمرة وأهل أصحابه بالحج فلم يحل النبي- صلى الله عليه وسلم - ولا من ساق الهدي من أصحابه وحل بقيتهم))[17].
وله أيضا عن أسماء بنت أبي بكر- رضي الله عنها- قالت: خرجنا محرمين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من كان معه هديه فليقم على إحرامه ومن لم يكن معه هدي فليحل))[18] فلم يكن معي هدي فحللت، وكان مع الزبير هدي فلم يحل.
وروى مسلم من طريق الليث عن أبي الزبير عن جابر- رضي الله عنه - أنه قال: ((أقبلنا مهلين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحج مفرد وأقبلت عائشة بعمرة حتى إذا كنا بسرف عركت حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة والصفا والمروة فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحل منا من لم يكن معه هدي قال: فقلنا: يا رسول الله حل ماذا؟ قال: " الحل كله " فواقعنا النساء وتطيبنا بالطيب ولبسنا ثيابنا وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال ثم أهللنا يوم التروية))[19]، الحديث.
وله أيضاً من طريق أبي خيثمة عن أبي الزبير عن جابر قال: ((خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهللين بالحج معنا النساء والولدان فلما قدمنا مكة طفنا بالبيت وبالصفا وبالمروة فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من لم يكن معه هدي فليحل، قلنا: يا رسول الله أي الحل؟ فقال: " الحل كله "، قال: فأتينا النساء ولبسنا الثياب ومسسنا الطيب فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج))[20]، الحديث.
وروى الإمام أحمد عن أنس- رضي الله عنه - قال: خرجنا نصرخ بالحج فلما قدمنا مكة أمرنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أن نجعلها عمرة وقال: ((لو استقبلت من أمري ما استدبرت لجعلتها عمرة ولكن سقت الهدي وقرنت بين الحج والعمرة))[21].
وله أيضا عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم - مكة وأصحابه مهلين بالحج فقال: من شاء أن يجعلها عمرة إلا من كان معه الهدي، قالوا: يا رسول الله أيروح أحدنا إلى منى وذكره يقطر منيا؟ قال: نعم، وسطعت المجامر))[22].
وله أيضا وابن ماجه عن البراء بن عازب قال: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فأحرمنا بالحج فلما قدمنا مكة قال: اجعلوا حجكم عمرة))[23].
قال: فقال الناس: يا رسول الله قد أحرمنا بالحج كيف نجعلها عمرة؟ قال: " انظروا ما آمركم به فافعلوا " فردوا عليه القول فغضب ثم انطلق حتى دخل على عائشة وهو غضبان فرأت الغضب في وجهه فقالت: من أغضبك أغضبه الله فقال: ومالي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا أتبع.
وروى أبو داود عن الربيع بن سبرة عن أبيه قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كنا بعسفان قال له سراقة بن مالك المدلجي: يا رسول الله اقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم فقال: " إن الله - عز وجل - قد أدخل عليكم في حجكم عمرة فإذا قدمتم فمن تطوف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة فقد حل إلا من كان معه هدي))[24].
فهذه الأحاديث منها ما هو نص في أن بدء وقت النحر للمتمتع والقارن يوم الأضحى، ومنها ما يدل عليه بمفهومه أو مع أمره - صلى الله عليه وسلم - أن نأخذ عنه المناسك وقد نحر عن نفسه وعن أزواجه يوم الأضحى ونحر أصحابه كذلك ولم يعرف عن أحد منهم أنه نحر هديه لتمتعه أو قرانه قبل يوم الأضحى فكان ذلك عمدة في التوقيت بما ذكر من جهات عدة.
وأما الإجماع: فقد قال ابن عابدين: على قول صاحبي تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار: ويتعين يوم النحر أي وقته وهو الأيام الثلاثة لذبح المتعة والقران فقط، فلم يجز قبله قال: فلم يجزئ، أي بالإجماع وهو بضم أوله من الإجزاء.
وأما الأثر: فقد نقل ابن قدامة عن الإمام أحمد أنه قال: روي عن غير واحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورواه الأثرم عن ابن عمر وابن عباس. وأما المعنى فقد ذكره ابن قدامة بقوله: إنما قبل يوم النحر لا يجوز ذبح الأضحية فيه فلا يجوز فيه ذبح الهدي للمتمتع كمثل التحلل من العمرة.
القول الثاني:
أنه يجوز قبل يوم النحر وهو منقول عن بعض المالكية، وبه قال الشافعي، وبعض أصحابه، وهو رواية عن الإمام أحمد، وقول لبعض أصحابه والذين قالوا بهذا القول: منهم من يرى جواز ذبحه إذا قدم به قبل العشر وهو رواية عن أحمد، ومنهم من يرى جواز ذبحه إذا أحرم بالعمرة، ومنهم من يرى جواز ذبحه إذا حل من العمرة، ومنهم من يرى جواز ذبحه بعد الإحرام بالحج.
وفيما يلي نقول عن القائلين بهذا القول مع مناقشتها، ثم نتبع ذلك بأدلتهم ومناقشتها.
أ - نقل الأبي عن القاضي عياض- رحمه الله - في الكلام على قول جابر- رضي الله عنه - ((فأمرنا إذا أحللنا))، أنه قال: في الحديث حجة لمن يجوز نحر الهدي للمتمتع بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج، وهو إحدى الروايات عندنا أي المالكية، والأخرى أنه لا يجوز إلا بعد الإحرام بالحج؛ لأنه بذلك يصير متمتعاً، والقول الأول جار على تقديم الكفارة على الحنث، وعلى تقديم الزكاة على الحول، وقد يفرق بين هذه الأصول، والأول ظاهر الأحاديث لقوله: ((فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي))[25].
وقد ناقش محمد بن أحمد بن محمد بن يوسف الرهوني ما نقله الأبي عن القاضي عياض فقال:
وأما ما نقله ويعني أبا عبد الله الأبي عن عياض فليس فيه أن الرواية بالجواز هي المشهورة أو الراجحة أو مساوية للأخرى، على أن قوله وفي الحديث حجة لمن يجيز نحر هدي التمتع بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج وإن كان في الأبي كذلك (نحر بالنون والحاء والراء) مخالفا لما وجدته لعياض في الإكمال فإن الذي وجدته فيه تقليد هدي التمتع (بالتاء والقاف واللام والياء والدال) كذا وجدته في نسخة عتيقة مظنون بها الصحة لم أجد في الوقت غيرها ويؤيد ما وجدته في أنه ذكر المسألة في موضع آخر فلم يذكر فيها جواز ذلك (أي النحر بعد الفراغ من العمرة وقبل الإحرام بالحج) عند أحد لا من أهل المذهب ولا من غيره ونصه وقوله للمتمتعين فمن لم يجد هديا فليصم (ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) [سورة البقرة الآية 196] نص في كتاب الله تعالى مما يلزم المتمتع وقد اختلف العلماء في تفسير هذه الجملة فقال جماعة من السلف: ما استيسر من الهدي شاة وهو قول مالك وقال جماعة أخرى منهم: بقرة دون بقرة وبدنة دون بدنة، وقيل المراد بدنة أو بقرة أو شاة أو شرك في دم وهذا عند مالك للحر والعبد إذ لا يهدي إلا أن يأذن له سيده وله الصوم وإن كان واجدا الهدي ولا يجوز عند مالك وأبي حنيفة نحره قبل يوم النحر، وأجاز ذلك الشافعي بعد إحرامه بالحج اهـ منه بلفظه.
ونقله الأبي نفسه مختصرا (عن القاضي عياض) وسلم ذكره قبل كلامه الذي نقله محمد البناني بنحو كراسين في كلامه (أي القاضي عياض) يفيد اتفاق الأئمة الثلاثة - رضي الله عنهم - على أنه لا يجوز نحره قبل الإحرام بالحج وكذا بعده مالك وأبو حنيفة خلافا للشافعي فكيف يذكر بعد ذلك الروايتين عند مالك في جواز نحره قبل الإحرام بالحج.
ويؤكد ذلك أيضا أن اللخمي إنما ذكر الخلاف في التقليد لا في النحر ونصه " ولا يقلد هدي المتعة إلا بعد الإحرام بالحج وكذلك القارن واختلف إذا قلد وأشعر قبل إحرام بالحج فقال أشهب وعبد الملك في كتاب ابن حبيب: لا يجزئه وقال ابن القاسم: يجزئه، فلم يجزئ في القول الأول لأن المتعة إنما تجب إذا أحرم بالحج وإذا قلد وأشعره قبل ذلك كان تطوعا والتطوع لا يجزئ عن الواجب وأجزأ في القول الأخير قياسا على تقديم الكفارة قبل الحنث والزكاة إذا قرب الحول والذي تقتضيه السنة التوسعة في جميع ذلك اهـ منه بلفظه.
ولا يخفى على منصف وقف على كلام اللخمي هذا وعلى كلام عياض أن الصواب هو ما وجدته في الإكمال ما نقله عنه الأبي ونص الإكمال قوله: ((فأمرنا حين أحللنا أن نهدي ويجتمع النفر منا في الهدي وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم لوجوب الهدي على المتمتع كما قال الله تعالى: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ))[26].
لأن هؤلاء صاروا بإحلالهم في أشهر الحج وانتظارهم الحج متمتعين وقد تقدم الكلام عليها في أول الكتاب ويحتج به ويجيز الاشتراك في الهدي الواجب ومن يجيز تقليد هدي التمتع عند التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج وهي إحدى الروايتين عندنا والأخرى لا يجوز إلا بعد الإحرام؛ لأنه حينئذ صار متمتعا ووجب عليه الدم والقول الأول على أصل تقديم الكفارة قبل الحنث وتقديم الزكاة قبل الحول على من يقول بها وقد يفرق بين هذه الأصول إذ ظاهر الحديث يدل على ما قلناه اهـ محل الحاجة منه بلفظه.
ب - قال خليل: "ودم التمتع يجب بإحرام الحج وأجزا قبله":
لقد ناقش الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - هذه الجملة عن خليل فقال: واعلم أن قول من قال من المالكية: إنه يجب بإحرام الحج وأنه يجزئ قبله كما هو ظاهر قول خليل في مختصره المالكي في ترجمته مبينا لما به الفتوى " ودم التمتع يجب بإحرام الحج وأجزأ قبله فقد اغتر به بعض من لا تحقيق عنده بالمذهب المالكي.
والتحقيق أن الوجوب عندهم برمي جمرة العقبة وبه جزم ابن رشد وابن العربي وصاحب الطراز وابن عرفة قال ابن عرفة: سمع بن القاسم " إن مات يعني المتمتع قبل رمي جمرة العقبة فلا دم عليه " ابن رشد؛ لأنه إنما يجب في الوقت الذي يتعين فيه نحره وهو بعد رمي جمرة العقبة فإن مات قبله لم يجب عليه وهو خلاف نقل النوادر عن محمد بن القاسم وعن سماع عيسى: من مات يوم النحر ولم يرم فقد لزمه دم، ثم قال ابن عرفة: فقول ابن الحاجب يجب بإحرام الحج يوهم وجوبه على من مات قبل وقوفه ولا أعلم في سقوطه خلافا، ولعبد الحق عن ابن الكاتب عن بعض أصحابنا من مات بعد وقوفه فعليه الدم انتهى من الحطاب " فأصح الأقوال الثلاثة وهو المشهور أنه لا يجب على من مات إلا إذا كان موته قبل رمي جمرة العقبة وفيه قول بلزومه إن مات يوم النحر قبل الرمي وأضعفها أنه يلزمه إن مات بعد الوقوف بعرفة أما لو مات قبل الوقوف بعرفة فلم يقل أحد بوجوب الدم عليه من عامة المالكية وقول من قال منهم: إنه يجب بإحرام الحج ولا يتفرع عليه من الأحكام شيء إلا جواز إشعاره وتقليده وعليه فلو أشعره أو قلده قبل إحرام الحج كان هدي تطوع فلا يجزئ عن هدي التمتع فلو قلده وأشعره بعد إحرام الحج أجزأه؛ لأنه قلده بعد وجوبه أي بعد انعقاد الوجوب في الجملة اهـ، وعن ابن القاسم أنه لو قلده وأشعره قبل إحرام الحج ثم أخر ذبحه إلى وقته أنه يجزئه عن هدي التمتع وعليه فالمراد بقول خليل: وأجزا قبله أي أجزأ الهدي الذي تقدم تقليده وإشعاره على إحرام الحج، هذا هو المعروف عند عامة علماء المالكية فمن ظن أن المجزئ هو نحره قبل إحرام الحج أو بعده قبل وقت النحر فقد غلط غلطا فاحشا.
قال الشيخ المواق في شرحه: قول خليل: وأجزأ فيه ما نصه: ابن عرفة يجزئ تقليده وإشعاره
بعد إحرام حجه ويجوز أيضا قبله على قول ابن القاسم انتهى.
وقال الشيخ الحطاب في شرحه: لقول خليل في مختصره ودم التمتع يجب بإحرام الحج وأجزأ قبله ما نصه: فإن قلت إذا كان هدي التمتع إنما ينحر بمنى إن وقف بعرفة أو بمكة بعد ذلك على ما سيأتي فما فائدة الوجوب هنا قلت يظهر في جواز تقليده وإشعاره بعد الإحرام للحج، وذلك أنه لو لم يجب الهدي حينئذ مع كونه يتعين بالتقليد لكان تقليده إذ ذاك قبل وجوبه فلا يجزئ إلا قلد بعد كمال الأركان.
وقال الشيخ الحطاب أيضا: والحاصل أن دم التمتع والقران يجوز تقليدها قبل وجوبها على قول ابن القاسم ورواية عن مالك، وهو الذي مشى عليه المصنف فإذا علم بعد ذلك فلم يبق للحكم بوجوب دم التمتع بإحرام الحج فائدة لا سيما على القول بأنه لا يجزئه ما قلده قبل الإحرام بالحج تظهر ثمرة الوجوب في ذلك ويكون المعنى أنه يجب بإحرام الحج وجوبا غير متحتم؛ لأنه معرض للسقوط بالموت والفوات فإذا رمى جمرة العقبة تحتم الوجوب فلا يسقط بالموت، كما نقول في كفارة الظهار أنها تجب بالعودة وجوبا غير متحتم بمعنى أنها تسقط بموت الزوجة وطلاقها فإن وطئ تحتم الوجوب ولزمت الكفارة ولو ماتت الزوجة وطلقها إلى أن قال: بل تقدم في كلام ابن عبد السلام في شرح المسألة الأولى: أن هدي التمتع إنما ينحر بمنى إن وقف به بعرفة أو بمكة بعد ذلك إلى آخره، وهو يدل على أنه لا يجزئ نحره قبل ذلك والله أعلم، ونصوص المذهب شاهدة بذلك.
قال القاضي عبد الوهاب في المعونة: ولا يجوز نحر هدي التمتع والقران قبل يوم النحر خلافا للشافعي لقوله تعالى: (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) [سورة البقرة الآية 196]، وقد ثبت أن الحلق لا يجوز قبل يوم النحر فدل على أن الهدي لم يبلغ محله إلا يوم النحر وله نحو ذلك في شرح الرسالة، وقال في التلقين: الواجب بكل واحد من التمتع والقران هدي ينحره بمنى ولا يجوز تقديمه قبل فجر يوم النحر وله مثله في مختصر عيون المجالس، ثم قال الحطاب- رحمه الله -: فلا يجوز الهدي عند مالك حتى يحل وهو قول أبي حنيفة وجوزه الشافعي من حيث يحرم بالحج واختلف قوله فيما بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج ودليلنا أن الهدي متعلق بالتحلل وهو مفهوم من قوله تعالى: (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) [سورة البقرة الآية 196]، اهـ منه.
وكلام العلماء المالكية بنحو هذا كثير معروف، والحاصل أنه لا يجوز ذبح دم التمتع والقران عند مالك، وعامة أصحابه قبل يوم النحر، وفيه قول ضعيف بجوازه بعد الوقوف بعرفة وهو لا يعول عليه.
وإن قولهم: إنه يجب بإحرام الحج لا فائدة فيه إلا جواز إشعار الهدي وتقليده بعد إحرام الحج لا شيء آخر فيما نقل عن عياض وغيره من المالكية مما يدل على جواز نحره قبل يوم النحر، كله غلط إما من تصحيف الإشعار والتقليد وجعل النحر بدل ذلك غلطا، وإما من الغلط في فهم المراد عند علماء المالكية كما لا يخفى على من عنده علم بالمذهب المالكي فاعرف هذا التحقيق ولا تغتر بغيره.
قال الشافعي: وإذا ساق المتمتع الهدي أو القارن لمتعته أو قرانه فلو تركه حتى ينحره يوم النحر كان أحب إلي، وإن قدم فنحره في الحرم أجزأه، من قبل أن على الناس فرضين فرضا في الأبدان فلا يكون إلا بعد الوقت وفرضا في الأموال فيكون قبل الوقت إذا كان شيئا مما فيه الفرض وهكذا إن ساقه مفردا متطوعا به والاختيار إذا ساقه معتمرا أن ينحره بعدما يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة قبل أن يحلق عند المروة وحيث نحره من فجاج مكة أجزأه والاختيار في الحج أن ينحره بعد أن يرمي جمرة العقبة وقبل أن يحلق.
وقال الشيرازي: ويجب دم التمتع بالإحرام بالحج، وفي وقت جوازه قولان:
أحدهما: لا يجوز قبل أن يحرم بالحج.
والثاني: يجوز بعد فسخ الإحرام من العمرة، وقال النووي: ووقت وجوبه عندنا الإحرام بالحج بلا خلاف ولا يتوقف بوقت كسائر دماء الجبران، لكن الأفضل ذبحه يوم النحر، وهل تجوز إراقته بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج؟ فيه قولان مشهوران، وحكاهما جماعة وجهين، والمشهور قولان وذكرهما المصنف - يريد الشيرازي - في كتابه المهذب بدليلهما وأصحهما الجواز فعلى هذا هل يجوز قبل التحلل من العمرة فيه طريقان:
أحدهما: لا يجوز قطعاً، وهو مقتضى كلام المصنف وكثيرين، ونقله صاحب البيان عن أصحابنا العراقيين، ونقل الماوردي اتفاق الأصحاب عليه.
والثاني: فيه وجهان أصحهما لا يجوز، والثاني يجوز بوجود بعض السبب حكاه أصحابنا الخراسانيون، وصاحب البيان فالحاصل في وقت جوازه ثلاثة أوجه: أحدها بعد الإحرام بالعمرة، وأصحها بعد فراغها، والثالث بعد الإحرام بالحج.
4 - قال ابن قدامة: أما وقت وجوبه فعن أحمد أنه يجب إذا أحرم بالحج، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وعنه أنه يجب إذا وقف بعرفة، وهو قول مالك واختيار القاضي، وقال أبو طالب: سمعت أحمد قال في الرجل يدخل مكة في شوال ومعه هدي، قال: ينحر بمكة، وإن قدم قبل العشر لم ينحره حتى ينحره بمنى، ومن جاء من قبل ذلك نحره عن عمرته، وأقام على إحرامه وكان قارنا انتهى، وقال أيضا: وقد ذكرنا رواية في جواز تقديم الهدي على إحرام الحج انتهى.
وذكر صاحب الفروع رواية عن الإمام أحمد أنه يجب بإحرام العمرة.
وقال صاحب الفروع أيضاً: أما وقت ذبحه فجزم جماعة منهم المستوعب والرعاية أنه لا يجوز نحره قبل وقت وجوبه، وقاله القاضي وأصحابه: لا يجوز قبل فجر يوم النحر (و هـ م)، فظاهره يجوز إذا وجب.
أدلة هذا القول:
نظراً إلى اختلاف القائلين بهذا القول في تحديد بدء وقت جواز ذبحه فإننا نذكر أدلة كل قول على حده مع المناقشة.
أما رواية أبي طالب عن الإمام أحمد أنه إن قدم به قبل عشر ذي الحجة جاز ذبحه، وإن قدم به بعد دخول العشر فإنه لا يذبحه إلا يوم النحر فهذه الرواية مبنية على مصلحة مرسلة، وذلك أنه جاء في رواية أبي طالب كما في المغني أنه قال: سمعت أحمد قال في الرجل يدخل مكة في شوال ومعه هدي قال: ينحره بمكة وإن قدم قبل العشر ينحره حتى لا يضيع أو يموت أو يسرق انتهى المقصود.
ويمكن أن يجاب عن ذلك بأمور ثلاثة:
أحدهما: أن العمل بالمصلحة المرسلة مشروط بعدم مخالفتها نصاً، وقد خالفت النص هنا وهو أن النبي- صلى الله عليه وسلم - أخر ذبح الهدي إلى يوم النحر قصدا وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((خذوا عني مناسككم))[27].
الثاني: أنها منتقضة فإن التعليل بخوف الموت والضياع والسرقة وارد أيضاً على الهدي إذا قدم به بعد دخول العشر؛ لأن العشر يحتمل أن يموت فيها الهدي أو يضيع أو يسرق.
الثالث: أن التحديد بالعشر لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع.
وأما من قال بجواز ذبحه بعد الإحرام بالعمرة، وهو قول عند الشافعية ورواية عن الإمام أحمد وقول أبي الخطاب من الحنابلة ومن وافقهم من أهل العلم فاستدل له بالكتاب وهو قوله تعالى: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) [سورة البقرة الآية 196].
وجه الدلالة: ما ذكره الشيرازي وغيره أن هدي التمتع والقران له سببان هما: العمرة والحج في تلك السنة فإن أحرم بالعمرة انعقد السبب الأول في الجملة فجاز الإتيان بالمسبب كوجوب قضاء الحائض أيام حيضها من رمضان؛ لأن انعقاد السبب الأول الذي هو وجود شهر رمضان كفى في وجوب الصوم، وإن لم تتوفر الأسباب الأخرى وإن لم تنتف الموانع، لأن قضاء الصوم فرع من وجوب سابقه في الجملة.
ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن هذا مجرد فهم للآية باجتهاد عارضه نص، ومن القواعد المقررة في باب الاجتهاد أنه لا يجوز الاجتهاد مع النص، والنص هو قوله تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [سورة الحج الآية 28 - 29]، وقد سبق الاستدلال بهذه الآية ومناقشتها في القول الأول فلا نطيل الكلام بالإعادة.
ج - وأما من قال بجواز ذبحه بعد التحلل من العمرة، وقبل الإحرام بالحج، وهو قول الشافعية ومن وافقهم من أهل العلم، فقد استدلوا بالكتاب والسنة والمعنى.
أما الكتاب: فقوله تعالى: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) [سورة البقرة الآية 196]. ووجه الاستدلال بها مع المناقشة، يقال فيه ما قيل عند الاستدلال بها للقول قبل هذا.
وأما السنة: فما رواه مسلم في صحيحه قال: وحدثني محمد بن حاتم حدثنا محمد بن بكر، أخبرنا ابن جريج أخبرنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يحدث عن حجة النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: ((فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ويجتمع النفر منا في الهدية، وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم في هذا الحديث))[28].
وجه الدلالة: قال النووي: فيه دليل لجواز ذبح هدي التمتع بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج.
ويمكن أن يجاب عن ذلك بثلاثة أمور:
أحدها: أن يقال: لا منافاة بين هذا الحديث وبين ما سبق من أدلة السنة للقول الأول وما جاء في معناها فإن جميعها يدل على أن النبي- صلى الله عليه وسلم - أمر المفرد والقارن اللذين لم يسوقا الهدي بالتحلل، وأمر بالهدي، وأمر باشتراك السبعة في البدنة إلا أنه في هذا الحديث نسق أمرهم بالهدي وأمرهم بأن يشترك السبعة في البدنة على أمره إياهم بالفسخ بدون فاصل متبعاً ذلك قوله: ((وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم))، وليس في تلك الأحاديث هذه اللفظة ولا ذلك التنسيق فمن هنا نشا الخطأ في استدلال من استدل بهذا الحديث، حيث لم يفرق بين زمن الأمر بالشيء وبين زمن فعل المأمور به، فظن أن الإشارة في قوله (وذلك) إلى زمن الذبح، وإنما هي إشارة إلى زمن الأمر والمراد أن زمن الأمر بالفسخ وزمن الأمر بالهدي والاشتراك فيها زمن واحد والحديث صريح في أن ذلك حين إحلالهم من حجهم وذلك إنما وقع يوم النحر؛ لأنه لا إحلال من حج البتة قبل يوم النحر فيكون الحديث حجة عليهم لا لهم وهذا ما يسمى عند الأصوليين بالقلب.
الثاني: أنه على تقدير أن قوله: ((وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم في هذا الحديث)) مخالف لما سبق من الأدلة، فيقال: في أن هذه الزيادة شاذة ووجه شذوذها مخالفتها لما سبق من الأدلة الصحيحة الخالية من هذه الزيادة، ومدارها على محمد بن أبي بكر البرساني، وقد رواه عن جابر عدول عن طريق أبي الزبير المكي أئمة: مالك بن أنس، والليث بن سعد، وأبو خيثمة، ومطر الوراق، وسفيان بن عيينة، وجميع رواياتهم خالية من هذه الزيادة.
الثالث: أن هذا من الأمور التي تتوافر الهمم والدواعي على نقلها فلو وقع أمره - صلى الله عليه وسلم- للصحابة بأن يذبحوا الهدي بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج لسارعوا إلى الامتثال كما سارعوا إلى امتثال أوامره من لبس الثياب والتطيب ومجامعة النساء وغير ذلك، ولو وقع ذلك لنقل فلما لم ينقل دل على عدم وقوعه ولم يأمرهم بالتحلل من العمرة إلا أنهم ليس معهم هدي.
وأما المعنى: فقال الشيرازي: إنه حق مالي يجب بشيئين، فجاز تقديمه على أحدهما كالزكاة بعد ملك النصاب، ويمكن أن يناقش ذلك بأنه دليل اجتهادي في مقابل نص، ولا اجتهاد مع النص، وقد مضى ذلك.
د- (وأما من قال من الشافعية ومن وافقهم بأنه يجوز بعد الإحرام بالحج، فقد استدلوا بالكتاب والسنة والمعنى.
أما الكتاب، فقوله تعالى: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) [سورة البقرة الآية 196]، ووجه الدلالة ما ذكره الشيرازي وغيره من أن الله أوجب الهدي على المتمتع، وبمجرد الإحرام بالحج يسمى متمتعاً فوجب حينئذ؛ لأنه يطلق على المتمتع وقد وجد، ولأن ما جعل غاية تعلق الحكم بأوله كقوله تعالى: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [سورة البقرة الآية 187]، فالصيام ينتهي بأول جزء من الليل فكذلك التمتع يحصل بأول جزء من الحج وهو الإحرام.
ويجاب عن الاستدلال بهذه الآية بما أجيب به عن الاستدلال بها لمن قال بجواز ذبحه إذا أحرم بالعمرة أو بعد تحلله منها وقد سبق، ويجاب أيضا بأن المتمتع لا يتحقق بإحرام الحج لاحتمال أن الحج قد يفوته بسبب عائق عن الوقوف بعرفة؛ لأنه لو فاته لا يسمى متمتعا.
وأما السنة: فقد استدلوا بأدلة:
الأول: ما رواه مسلم في صحيحه قال: وحدثني محمد بن حاتم حدثنا محمد بن بكر، أخبرنا ابن جريج أخبرنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يحدث عن حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ويجتمع النفر منا في الهدية وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم))[29] في هذا الحديث. وجه الدلالة قد يقال أن هذا الحديث يدل على جواز ذبح هدي التمتع بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج فيدل بطريق الأولى على جوازه بعد الإحرام بالحج.
وقد مضت مناقشة هذا الدليل عند الاستدلال به لمن قال بجواز ذبحه بعد التحلل من العمرة وبهذا يتبين أنه لا دلالة فيه ويجاب ثانيا بما أجيب به من الوجه الثاني عن الاستدلال بالآية. الدليل الثاني ما أخرجه الحاكم في المستدرك قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن عيسى بن إبراهيم ثنا أحمد بن النضر بن عبد الوهاب، ثنا يحيى بن أيوب، ثنا وهب بن جرير، ثنا أبي عن محمد بن إسحاق، ثنا ابن أبي نجيح عن مجاهد وعطاء، عن جابر بن عبد الله قال: كثرت القالة بين الناس فخرجنا حجاجا حتى لم يكن بيننا وبين أن نحل إلا ليال قلائل أمرنا بالإحلال الحديث إلى أن قال:
قال عطاء: قال ابن عباس- رضي الله عنه -: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسم يومئذ في أصحابه غنما فأصاب سعد بن أبي وقاص تيس فذبحه عن نفسه فلما وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفة أمر ربيعة بن أمية بن خلف فقام تحت يدي ناقته فقال له النبي- صلى الله عليه وسلم -: " اصرخ أيها الناس هل تدرون أي شهر هذا؟ الحديث ثم قال الحاكم بعد إخراجه: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي على تصحيحه.
ومحل الشاهد من هذا الحديث قوله: ((فأصاب سعد بن أبي وقاص تيس فذبحه عن نفسه فلما وقف بعرفة))[30] إلخ.
وجه الدلالة قد يقال: إن عطف الوقوف بالفاء على ذبح سعد تيسه عن نفسه يدل على جواز ذبح الهدي بعد الإحرام بالحج.
والجواب: أن ذبح سعد للتيس كان يوم النحر بدليل ما رواه الإمام أحمد في مسنده قال: حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج قال: أخبرني عكرمة مولى ابن عباس زعم أن ابن عباس أخبره أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قسم غنما يوم النحر في أصحابه وقال: (( اذبحوها لعمرتكم فإنها تجزئ، فأصاب سعد بن أبي وقاص تيسا))[31] وقد ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: أخرجه الإمام أحمد ورجاله رجال الصحيح فرواية الإمام أحمد مفسرة لرواية الحاكم وحينئذ لا دلالة في الحديث.
وأما المعنى فمن وجوه:
أحدها: ما ذكره الشيرازي بقوله: إن شرائط الدم إنما توجد بوجود الإحرام فوجب أن يتعلق الوجوب به. انتهى.
ويمكن أن يناقش ذلك بأنه دليل اجتهادي، ولا اجتهاد مع النص، وقد سبق ما يدل على خلاف ذلك عند الكلام على أدلة المذهب الأول.
الثاني: ويجاب أيضاً بما أجيب به من الوجه الثاني عن الآية التي استدل بها أهل هذا القول، ما سبق من المناقشة لاستدلال أهل القول الأول بقوله تعالى: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) [سورة البقرة الآية 196]، والمحل المقصود من المناقشة جواز ذبح الهدي قبل يوم النحر قياساً على جواز الصيام؛ لأنه بدله والبدل له حكم المبدل منه.
الثالث: ويجاب عن هذا بما أجيب به عنه هناك تركنا إعادته هنا اختصارا. ما ذكره النووي بقوله: "ولا يتوقت بوقت كسائر دماء الجبران".
ويناقش ذلك بما ذكره ابن القيم- رحمه الله تعالى- في كتابه زاد المعاد: من أنه دم شكران لا دم جبران[32].
ويمكن أن يناقش ثانياً: بأنه قياس مع النص، فقد وردت أدلة دالة على ذبحه يوم النحر، وسبقت من أدلة القول فيكون هذا القياس فاسد الاعتبار.
ثانياً: انتهاء وقت ذبح الهدي.
اختلف أهل العلم في تحديد نهاية أيام النحر، هل هي يوم العيد ويومان بعده، أو يوم العيد وثلاثة أيام بعده، أو يوم العيد فقط إلخ، ما ستأتي الإشارة إليه من الأقوال التي لا تعتمد على دليل شرعي وفيما يلي ذكر المذاهب، ومن قال بكل مذهب منها ومستنده مع المناقشة في حدود ما يسره الله.
القول الأول: ينتهي وقت النحر بغروب شمس اليوم الثاني من أيام التشريق، وممن قال بهذا القول الحنفية، وهو مذهب مالك وأحمد الجصاص، ذهب أصحابنا والثوري إلى أنه يوم العيد ويومان بعده. وقال القرطبي: قال مالك: ثلاثة يوم النحر ويومان بعده، وقال ابن قدامة: قال أحمد: أيام النحر ثلاثة عن غير واحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال ابن القيم: هذا مذهب أحمد، وقال في الإنصاف: هذا هو الصحيح من المذهب وعليه جماهير الأصحاب وقطع به كثير منهم واستدل لهذا القول بالكتاب والسنة والإجماع والأثر والمعنى:
أما الكتاب: فقوله تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) [سورة الحج الآية 28]، وجه الدلالة ما ذكره القرطبي بقوله "وهذا جمع قلة لكن المتيقن منه الثلاثة وما بعد الثلاثة غير متيقن فلا يعمل به".
وأما السنة: ((فنهى النبي-صلى الله عليه وسلم- عن ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاثة))[33]، وجه الدلالة ما ذكره الباجي بقوله: ومعلوم أنه أباح الأكل منها في أيام الذبح فلو كان اليوم الرابع منها لكان قد حرم على من ذبح في ذلك اليوم أن يأكل من أضحيته انتهى كلام الباجي وليس هناك فرق بين الأضحية والهدي بالنسبة لانتهاء وقت الذبح.
وأما الإجماع: فقد قرره الجصاص بقوله بعد ذكره هذا الرأي عن بعض أصحابه قال: قد ثبت عمن ذكرنا من الصحابة أنها ثلاثة، واستفاض ذلك عنهم، وغير جائز لمن بعدهم خلافهم إذا لم يرد عن أحد من نظرائهم خلافه فثبتت حجته.
وأيضا فإن سبيل تقدير النحر التوقيف أو الاتفاق إذ لا سبيل إليها من طريق القياس فلما قال: من ذكرنا قوله من الصحابة بالثلاثة صار ذلك توقيفاً كما قلنا في مقدار مدة الحيض وتقدير المهر ومقدار التشهد في إكمال فرض الصلاة وما جرى مجراها من المقادير التي طريق إثباتها التوقيف أو الاتفاق وإذا قال به قائل من الصحابة ثبتت حجته وكان ذلك توقيفاً.
وأما الأثر: فقد نقله الجصاص وغيره عن علي وابن عباس وابن عمر وأنس بن مالك وأبي هريرة وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب.
وأما المعنى فمن وجهين:
أحدها: ما ذكره الجصاص بقوله: قد ثبت الفرق بين أيام النحر وأيام التشريق؛ لأنه لو كانت أيام النحر أيام التشريق لما كان بينهما فرق، وكان ذكر أحد العددين ينوب عن الآخر فلما وجدنا الرمي في يوم النحر وأيام التشريق ووجدنا النحر يوم النحر، وقال قائلون: إلى آخر أيام التشريق وقلنا نحن يومان بعده وجب أن نوجد فرقا بينهما لإثبات فائدة كل واحد من اللفظين وهو أن يكون من أيام التشريق ما ليس من أيام النحر وهو آخر أيامها.
الثاني: ما ذكره الباجي بقوله: هو يوم مشروع النحر قبله فلم يكن من أيام الذبح كالخامس.
القول الثاني: أن وقت الذبح ينتهي بغروب الشمس من اليوم الثالث من أيام التشريق وبهذا قال الشافعي: واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ومن وافقهم من أهل العلم قال الشافعي: والأضحية جائزة يوم النحر وأيام منى كلها.
وقال المرداوي في الإنصاف: قال في الإيضاح: آخره آخر يوم من أيام التشريق واختاره ابن عبدوس في تذكرته بأن آخره آخر اليوم الثالث من أيام التشريق واختاره الشيخ تقي الدين قاله في الاختيارات وجزم به ابن رزين في نهايته والظاهر أنه مراد صاحب النهاية فإن كلامه محتمل.
وقال ابن القيم في زاد المعاد: وهو مذهب إمام أهل الهجرة الحسن، وإمام أهل مكة عطاء بن أبي رباح، وإمام أهل الشام الأوزاعي، وإمام فقهاء أهل الحديث الشافعي- يرحمه الله - ، واختاره ابن المنذر، واستدل لهذا القول بالكتاب والسنة والأثر والمعنى:
أما الكتاب: فقوله تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) [سورة الحج الآية 28].
وجه الدلالة: أن المراد بالمعلومات أيام النحر يوم العيد وثلاثة أيام بعده، واستدلوا لهذا التوجيه بقوله تعالى: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) [سورة البقرة الآية 203].
قال ابن القيم- رحمه الله -: هذه الأيام الثلاثة تختص بأنها أيام منى، وأيام الرمي، وأيام التشريق، ويحرم صيامها فهي أخوة في هذه الأحكام فكيف تفترق في جواز الذبح بغير نص ولا إجماع.
وأما السنة فقد استدلوا بأدلة:
الأول: أن النبي-صلى الله عليه وسلم- نحر هديه يوم النحر ضحى.
وجه الدلالة: ما ذكره الشافعي بقوله: فلما لم يحظر على الناس أن ينحروا بعد يوم النحر بيوم أو يومين لم نجد اليوم الثالث مفارقا لليومين قبله؛ لأنه ينسك فيه ويرمى كما ينسك ويرمى فيهما.
الثاني: ما رواه سليمان بن أبي موسى عن أبي حسين عن جبير بن مطعم عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: ((كل عرفات موقف وارتفعوا عن عرنة وكل مزدلفة موقف وارتفعوا عن محسر وكل فجاج مكة منحر وكل أيام التشريق ذبح))[34].
وهذا نص في الدلالة أن كل أيام النحر بأنها ثلاثة بعد العيد، وأجيب عن هذا الحديث بما نقله الرازي عن الإمام أحمد أنه قال جوابا لمن سأله عن هذا الحديث قال: لم يسمعه ابن أبي حسين بن جبير بن مطعم وأكثر روايته عنه سهو.
وقال الرازي: وقد قيل إن أصله ما رواه مخرمة بن بكير بن عبد الله بن الأشج عن أبيه قال: سمعت أسامة بن زيد يقول: سمعت عبد الله بن أبي حسين يخبر عن عطاء بن أبي رباح وعطاء يسمع قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((كل عرفة موقف وكل منى منحر وكل فجاج مكة طريق ومنحر))[35]، فهذا أصل الحديث ولم يذكر فيه ((وكل أيام التشريق ذبح))[36] ويشبه أن يكون الحديث الذي ذكره فيه هذا اللفظ إنما هو من كلام جبير بن مطعم أو من دونه؛ لأنه لم يذكره.
وأجاب ابن القيم عن ذلك بقوله وروي من وجهين مختلفين يشد أحدهما الآخر عن النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((كل منى منحر وكل أيام التشريق ذبح))[37]، وروي من حديث جبير بن مطعم وفيه انقطاع، ومن حديث أسامة بن زيد عن عطاء عن جابر قال يعقوب بن سفيان: أسامة بن زيد عند أهل المدينة ثقة مأمون. انتهى.
وقد تكلم الزيلعي على هذا الحديث في نصب الراية فقال: رواه أحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه في النوع الثالث والأربعين من القسم الثالث من حديث عبد الرحمن بن أبي حسين عن جبير بن مطعم عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: ((كل أيام التشريق ذبح وعرفة كلها موقف))[38] إلى آخره، وقد ذكرناه بتمامه في الحج، ورواه البزار في مسنده.
وقال: ابن أبي حسين لم يلق جبير بن مطعم، ورواه البيهقي في المعرفة ولم يذكر فيه انقطاعاً، وأخرجه الداراقطني في سننه عن أبي معيد عن سليمان بن موسى عن عمرو بن دينار عن جبير بن مطعم مرفوعاً، وأبو معين بمثناه فيه لين، وأخرجه هو والبزار عن سويد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه مرفوعاً قال البزار: لا نعلم قال فيه عن نافع بن جبير عن أبيه الأسود بن عبد العزيز وهو ليس بالحافظ ولا يحتج به إذا انفرد، وحديث ابن أبي حسين هو الصواب مع أن أبي حسين لم يلق جبير بن مطعم. انتهى.
وأخرجه أحمد أيضاً البيهقي عن سليمان بن موسى عن جبير بن مطعم عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال البيهقي: وسليمان بن موسى لم يدرك جبير بن مطعم وأخرجه ابن عدي في الكامل عن معاوية ابن يحيى الصدفي عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أيام التشريق كلها ذبح))[39] انتهى.
وضعف معاوية بن يحيى عن النسائي والسعدي وابن معين وعلي بن المديني ووافقهم، وقال ابن أبي حاتم في كتاب العلل: قال أبي: هذا حديث موضوع بهذا الإسناد. انتهى.
وقيل معاوية محمد بن شعيب.
وأما الأثر: فقد أخرج البيهقي عدة آثار في ذلك عن ابن عباس والحسن وعطاء وعمر بن عبد العزيز وسليمان بن موسى وذكر ابن قدامة أنه مروي عن علي.
وأما المعنى: فإنها أيام تكبير وإفطار فكانت محلا للنحر كالأولين ذكر ذلك ابن قدامة.
وأما ما عدا هذين القولين من الأقوال فقد تركنا ذكرها لعدم جدوى البحث فيها فإنها أقوال مبنية على مدارك اجتهادية ولا محل للاجتهاد مع الأدلة قال ابن عبد البر: ولا يصح عندي في هذا إلا قولان أحدهما قول مالك والكوفيين والثاني قول الشافعي والشاميين وهذان القولان مرويان عن الصحابة فلا معنى للاشتغال بما خالفهما؛ لأن ما خالفهما لا أصل له في السنة ولا في قول الصحابة وما خرج عن هذين فمتروك انتهى المقصود، بواسطة نقل القرطبي عنه في جامعه.
ثالثا: ذبح الهدي ليلاً
اختلف أهل العلم في جواز الذبح ليلا فمنهم من يرى أنه لا يجوز ومنهم من قال بجوازه وفيما يلي ذكر القولين مع الأدلة والمناقشة.
القول الأول: لا يجوز الذبح ليلاً، ومن قال به مالك وأصحابه إلا أشهب، وهو رواية عن أحمد وهي ظاهر كلام الخرقي، قال الباجي: ولا يجوز نحر الهدي ليلاً وعلى هذا قول مالك وأصحابه إلا أشهب، فقد روى عنه ابن الحارث أنه يجوز نحر الهدي أو ذبحه ليلاً وقال ابن قدامة: ولا يجزئ أي الذبح في ليلتهما في قول الخرقي.... قال: واختلفت الرواية عن أحمد في الذبح في ليلتي يومي التشريق ففيه لا يجزئ نص عليه أحمد- رضي الله عنه- في رواية الأشرم، واستدل لهذا القول بالكتاب والسنة والمعنى:
أما الكتاب: فقوله تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ)[سورة الحج الآية 28].
وجه الدلالة قد يقال: إن الله ذكره بلفظ الأيام، وذكر اليوم يدل على أن الليل ليس كذلك ومن وجه آخر قال الباجي: أن الشرع ورد بالذبح في زمن مخصوص وطريق تعلق النحر والذبح بالأوقات الشرع لا طريق له غير ذلك فإذا ورد الشرع بتعلقه بوقت مخصوص كقوله تعالى: (فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ) [سورة الحج الآية 28]، وبنحر النبي- صلى الله عليه وسلم- وذبحه أضحيته نهاراً علمنا جواز ذلك نهاراً، ولم يجز أن نعديه إلى الليل إلا بدليل وقد طلبنا في الشرع فلم نجد دليلاً ولو كان لوجدناه مع البحث والطلب فهذا من باب الاستدلال بعدم الدليل فيما تتوقف شرعيته على وجود الدليل.
وأجاب ابن حزم عن هذا الاستدلال بقوله: هذا إيهام منهم يمقت الله عليه؛ لأن الله تعالى لم يذكر في هذه الآية ذبحاً ولا تضحية ولا نحراً لا في نهار ولا في ليل، إنما أمر الله تعالى بذكره في تلك الأيام المعلومات أفترى يحرم ذكره في لياليه إن هذا لعجب ومعاذ الله من هذا وليس هذا النص يمانع من ذكره تعالى وحمده على ما رزقنا من بهيمة الأنعام في ليل ونهار في العام كله ولا يختلفون فيمن حلف ألا يكلم زيدا ثلاثة أيام أن الليل يدخل في ذلك النهار.
وأما السنة: فما روي عن النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن الذبح ليلاً.
وهذا نص في الدلالة على عدم جواز الذبح ليلاً، وقد أجاب عنه ابن حزم بقوله: وذكروا حديثاً لا يصح رويناه من طريق بقية بن الوليد عن مبشر بن عبيد الحلبي عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الذبح بالليل))، وبقية ليس بالقوي، ومبشر بن عبيد مذكور بوضع الحديث عمداً، ثم هو مرسل. انتهى كلام ابن حزم.
وقال ابن حجر في مبشر بن عبيد: هو متروك، ويجاب عن ذلك بأن البيهقي أخرج في سننه حديثا فيه النهي عن الذبح ليلاً قال: أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا الحسن بن علي بن عفار ثنا يحيى بن آدم ثنا حفص عياش عن شيث بن عبد الملك عن الحسن قال: ((نهي عن حداد الليل وحصاد الليل والأضحى بالليل))، وأجاب عنه البيهقي بقوله: إنما كان ذلك من شدة حال الناس كان الرجل يفعله ليلاً فنهي عنه، ثم رخص في ذلك.
وأما المعنى: فمن وجهين ذكرهما عبد الرحمن بن قدامة
أحدهما: أنه ليل يوم يجوز الذبح فيه فأشبه ليلة يوم النحر.
الثاني: أن الليل يتعذر فيه تفرقة اللحم في الغالب، ولا يفرق طريا فيفوت بعض المقصود وأجاب ابن حزم عن الدليل الأول فقال هذا قياس والقياس كله باطل ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل؛ لأن يوم النحر هو مبدأ دخول وقت التضحية وما قبله ليس وقتا للتضحية ولا يختلفون معنا في أن من طلوع الشمس إلى أن يمضي بعد ابيضاضها وارتفاعها وقت واسع من يوم النحر لا يجوز فيه التضحية فيلزمهم أن يقيسوا على ذلك اليوم ما بعده من أيام التضحية فلا يجيزون التضحية فيها إلا بعد مضي مثل ذلك الوقت وإلا فقد تناقضوا وظهر فساد قولهم وما نعلم أحدا من السلف قبل مالك منع من التضحية ليلا.
القول الثاني: أنه يجوز الذبح ليلاً بمنى، قال بذلك أبو حنيفة، وروي عن مالك إن فعل ذلك أجزأه، وقال به أشهب من المالكية والشافعي، وهو رواية عن أحمد وقول أكثر الصحابة وبه قال ابن حزم: قال الباجي نقلا عن القاضي أبي الحسن: وقد روي عن مالك فيمن فعل ذلك أجزأه ونقل الباجي القول عن أشهب فيه أنه يجوز الذبح ليلا، وقال الشافعي- رحمه الله -: ويذبح في الليل والنهار وإنما أكره ذبح الليل لئلا يخطئ رجل في الذبح أو لا يوجد مساكين حاضرون فأما إذا أصاب الذبح ووجد مساكين فسواء وقال النووي: مذهبنا جواز الذبح ليلا ونهارا في هذه الأيام لكن يكره ليلا وبه قال أبو حنيفة وإسحاق وأبو ثور والجمهور وهو الأصح عن أحمد وقال ابن قدامة بعد ذكره لرأي الخرقي وقال غيره من أصحابنا: يجوز ليلتي يومي التشريق الأوليين وهو قول أكثر الفقهاء وقال في الشرح: وروي عن أحمد أن الذبح يجوز ليلا اختاره أصحابنا المتأخرون وبه قال الشافعي وإسحاق وأبو حنيفة وأصحابه انتهى كلامه.
واستدل لهذا القول بالكتاب والمعنى، أما الكتاب فقوله تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) [سورة الحج الآية 28].
وجه الدلالة: يمكن أن يقال: إن الأيام تطلق لغة على ما يشمل الليالي ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن حمل الآية على ظاهرها وهو أنها تتناول الأيام دون الليالي أحوط من حملها على تناول الليل والنهار
رابعاً: مكان ذبح الهدي
لم نطلع على كلام أحد من أهل العلم أن هدي التمتع والقران يجوز ذبحه خارج الحرم ولم يرد في القرآن ولم نطلع على شيء من السنة يدل على جواز ذبحه خارج الحرم وقد جاءت أدلة من القرآن خاصة في غير هدي التمتع والقران وجاءت آية دالة بعمومها على محل هدي التمتع والقران وجاءت أدلة من السنة تدل على ذبحه في أي موضع من الحرم وفيما يلي بيان هذه الأدلة.
قال تعالى في المحصر: (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) [سورة البقرة الآية 196]، وفسر محله بأنه الحرم عند القدرة على إيصاله وقوله - تعالى -في جزاء الصيد (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [سورة المائدة الآية 95]، ومعلوم أنه لم يرد الكعبة بعينها وإنما أراد الحرم وقال: (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [سورة الحج الآية 33]، وهذا عام في الهدايا ومنها هدي التمتع والقران وأما الأحاديث فقد روى البيهقي أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: ((كل منى منحر وكل فجاج مكة طريق ومنحر))[40] ولتمام الفائدة نورد ما ذكره الزيلعي على هذا الحديث قال: روي من حديث جابر ومن حديث أبي هريرة فحديث جابر أخرجه أبو داود وابن ماجه عن أسامة بن زيد الليثي عن عطاء بن أبي رباح عن جابر قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ((كل عرفة موقف وكل منى منحر وكل المزدلفة موقف وكل فجاج مكة طريق ومنحر))[41] انتهى بلفظ أبي داود ومثله لفظ ابن ماجه. إلا أن فيه تقديماً وتأخيراً ولاختلاف لفظهما فرقهما ابن عساكر في موضعين من ترجمة عطاء عن جابر في أطرافه فجعلهما حديثين وليس بجيد والصواب ما فعله شيخنا أبو الحجاج المزي في أطرافه فإنه ذكره في ترجمة واحدة والشيخ زكي الدين المنذري قلد ابن عساكر فلم يعزه في مختصر السنن لابن ماجه والله أعلم.
وأسامة بن زيد الليثي قال في التنقيح روى له مسلم متابعة فيما أرى ووثقه ابن معين في روايته انتهى فالحديث حسن واعلم أن بعض الحديث في مسلم أخرجه عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((نحرت هاهنا ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم))[42].
وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أبو داود في الصوم عن محمد بن المنكدر عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أفطر يوم تفطرون وأضحي يوم تضحون وكل عرفة موقف وكل منى منحر وكل فجاج مكة منحر وكل جمع موقف))[43] انتهى.
قال المنذري في مختصره: قال ابن معين: محمد بن المنكدر لم يسمع من أبي هريرة - رضي الله عنه - وقال: أبو زرعة لم يلق أبا هريرة انتهى ورواه البزار في مسنده وقال: محمد بن المنكدر لا نعلمه سمع من أبي هريرة انتهى، وروى الواقدي في كتاب المغازي حدثني إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال في عمرة القضية وهديه عند المروة: ((هذا المنحر وكل فجاج مكة منحر فنحر عند المروة))[44] انتهى كلام الزيلعي.
وقال ابن حجر في إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأشهلي مولاهم أبو إسماعيل المدني: ضعف من السابقة روى له أبو داود والترمذي والنسائي.
خامساً: حكم الاستعاضة عن ذبح الهدي بالتصدق
دل الكتاب والسنة والإجماع وسد الذرائع على أنه لا يجوز أن يستعاض عن ذبح الهدي بالتصدق بقيمته.
أما الكتاب: فقوله تعالى: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) [سورة البقرة الآية 196].
وجه الدلالة: أن الله - جل وعلا - أوجب على المتمتع الهدي في حال القدرة عليه فإذا لم يجد هدياً أو ثمنه فإنه ينتقل إلى الصيام، ولم يجعل الله واسطة بين الهدي والصيام ولا بدلاً عن الصيام عند العجز عنه وما كان ربك نسياً، وقد بين الله ما يجب على المريض إذا عجز مطلقاً عن الصيام من الإطعام بقوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) [سورة البقرة الآية 184]، وإذا كان قادراً على القضاء فقد بين حكمه بقوله تعالى: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [سورة البقرة الآية 185]، وبين في كفارة اليمين أنه يجب العتق أو الإطعام أو الكسوة، وعند العجز يصوم ثلاثة أيام متتاليات، وبين في كفارة من أصيب بمرض أو أذى في رأسه واحتاج إلى ارتكاب محظور ليتخلص مما أصيب به بقوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) [سورة البقرة الآية 196]، وقال في كفارة القتل خطأ: (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) [سورة النساء الآية 92] إلى أن قال: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) [سورة النساء الآية 92]، وقال في كفارة الظهار: (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ* فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) [سورة المجادلة الآية 3 - 4] الآية.
وأما السنة: فإن أدلتها في هذا الموضوع متفقة مع القرآن.
وأما الإجماع: فإن الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المجتهدين أخذوا بما دل عليه القرآن ودلت عليه السنة من وجوب الهدي على المتمتع والقارن، فإذا لم يجد هدياً أو لم يجد ثمنه فإنه يصوم عشرة أيام ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ومن قال بالتصدق فإنه يطالب بدليل يخالف ذلك.
وأما سد الذرائع: فإنه لو أجيز القول بالاستعاضة عن ذبح الهدي بالتصدق بقيمته، لأدى ذلك إلى التوسع في أبواب الشريعة فمثلاً يقال: تخرج نفقة الحج بدلاً من الحج نظراً لصعوبته في هذا العصر. وهناك شبه قد يتعلق بها من تسول له نفسه القول بالجواز نذكرها فيما يلي ثم نتبع كل شبهة بجوابها:
الشبهة الأولى: قد يقال بالجواز نظراً لصعوبة تنظيم الذبح في الوقت الحاضر مع بقاء المفسدة على حالها بل ربما زادت مع تزايد عدد الحجاج. ويمكن أن يجاب عن هذه الشبهة بأمور:
أحدها: أن سوء تطبيق الناس لأمر كلفوا به لا يجوز نقلهم عنه إلى أمر لم يشرع لهم بدعوى أنه يسهل عليهم تطبيقه، بل يجب السعي في تسهيل الذبح عليهم وحسن تطبيقه.
الثاني: أن هذا حكم مبني على مصلحة ملغاة، وقد قرر العلماء على أن المصالح ثلاثة أقسام مصلحة معتبرة فيعمل بها بالإجماع، ومصلحة ملغاة فلا يعمل بها بالإجماع، ومصلحة مرسلة وفي العمل بها خلاف والمصلحة المذكورة هنا مصلحة ملغاة فإن الشرع لم يعتبرها بعد ذكره للهدي وفي حالة عدم القدرة عليه أو على ثمنه ينتقل إلى الصيام.
الثالث: أن المقصود من هذه العبادة إراقة الدم، وأما اللحوم فهي مقصودة بالقصد الثاني قال تعالى: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) [سورة الحج الآية 37]، وفي الاكتفاء بالتصدق بالثمن دون إراقة الدم إضاعة للقصد الأول.
الشبهة الثانية: ما يجري عليه بعض الحجاج من تسليم ثمن الهدي الواجب عليهم للمطوفين وعمالهم بأنفسهم بصفة التوكيل حيث لا يباشرون بأنفسهم عمليات الشراء والذبح والتصدق باللحوم لتعذر ذلك عليهم وخوف الهلاك من شدة الازدحام أو المشقة أو الحرج.
ويمكن أن يجاب عن هذه الشبهة بما أجيب به عن الشبهة الأولى ويضاف إلى ذلك أن الحاج إذا وكل شخصا يشتري عنه هديا ويذبحه ويوزعه على المستحقين على الصفة الشرعية فقد خرج بذلك عن عهدة الهدي وصارت العهدة على من صار وكيلا للقيام بالشراء والذبح والتصدق فإن هذا مما يجوز التوكيل فيه شرعا.
الشبهة الثالثة: أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح وبالتالي درء للمفاسد عن الأمة وجلب لمصالحها.
ويجاب عن هذه الشبهة بما أجيب به عن الشبهة الأولى ويضاف إلى ذلك:
أولاً: أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح لكن لا يصح أن يقال: إن ذبح الهدايا مفسدة وإن درءها بما ذكروه من إلغاء هذه الشعيرة والتصدق بثمنها؛ لأن من القواعد المقررة في الشريعة أن المفاسد درجات وأن المصالح درجات وأنه يجوز تفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما وارتكاب أخف المفسدتين لاجتناب كبراهما ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح فيما ليس فيه دليل شرعي وفيما إذا كانت المفسدة أرجح من المصلحة وما نحن فيه ليس كذلك بل قام الدليل على خلافه والمصلحة أرجح مما ظن مفسدة بتحريف النصوص عن مواضعها ومقاصدها.
ثانياً: أن هذا يفتح باب تلاعب في الشريعة فلا يكون للنصوص قيمة وإنما القيمة لما يصدر من سفهاء العقول من تصورات يزعمون أنها مصالح تستحق أن تقدم على الأدلة. ثالثا: أن النسك عبادة مبنية على التوقيت فلا يجوز العدول عن المشروع إلا بدليل شرعي موجب للعدول عنه وكل تشريع مبني على التوقيت فإنه لا يدخله الاجتهاد ومنه القول بالمصلحة المدعاة هنا.
رابعاً: أن من وجب عليه الهدي يجب عليه إيصاله إلى مستحقه كما في قوله تعالى: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) [سورة الحج الآية 28]، وكذلك سائر ما يجب عليه من الحقوق كالزكاة والنذر والكفارات وغيرها.
خامساً: أن الشارع لم يمنع الذبح في أي محل من الحرم كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((نحرت هاهنا ومنى كلها منحر وفجاج مكة طريق ومنحر))[45]، فالحاج ينحره في أي موضع من فجاج مكة ويوزعه على الفقراء.
سادساً: علاج مشكلة اللحوم في منى: مشكلة اللحوم يمكن أن تعالج بالأمور الآتية:
الأول: الكشف على ما يباع للتأكد من صلاحيته هدياً من حيث السن والسلامة من الأمراض وموانع الإجزاء وتوضع علامة يعرف بها أن هذه الذبيحة تجزئ وما عدا ذلك يمنع.
الثاني: التوسع في توعية الحجاج ببيان المجزئ وما لا يجزئ حتى لا يقدموا إلا على بصيرة. الثالث: الإكثار من عدد المجازر في أماكن مختلفة من منى وفجاج مكة وإرشاد الناس إليها.
الرابع: تسهيل طريق الحصول على هذه اللحوم للفقراء وذلك بما يلي:
1- إيصاله إليهم إن أمكن.
2- معاونتهم على إيصاله إلى منازلهم.
3- التوسع في توزيع ما زاد على فقراء الحرم على فقراء خارج الحرم ويكون إعطاء الفقراء الذين هم خارج الحرم بمنزلة دفع الزكاة لفقراء غير فقراء بلد المال إذا أعطي فقراء بلد المال حاجتهم ولم يوجد أحد يستحق فكذلك الهدي ينقل إلى فقراء البلدان المجاورة لمكة.
التوسع في التوكيل على ذبح الهدي بطرق منظمة تضمن مصلحة صاحب الهدي ومصلحة الفقير والمصلحة العامة ويكون فيه أناس يشرفون من قبل الدولة على تطبيق ذلك. هذا ما تيسر ذكره وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

♥ρėŧŧу ςαŧ♥
03-11-2011, 04:33 PM
تسلم ايدك يا رمضان